كيف نذاكر (الروض المربع)؟

وردت عدة أسئلة عن طريقة المذاكرة المثلى لكتاب (الروض المربع) المقرر على طالبات كلية الشريعة في مادة الفقه، وهو كتاب جليل القدر يعنى بتقرير المذهب الحنبلي في شرحه لمتن (زاد المستقنع)، مع ذكره أحياناً لأدلة الفروع وتعليلاتها.

وإذا كنا سنقرأ المتن الفقهي سرداً  كما هو، وكما نقرأ مقالاً أو قصةً، فإنا لن نجد الفائدة المرجوة ولن نحصِّل الفهم المراد، بل تنبغي لقراءة هذه المتون طريقة معينة، يتكشف لك حين تسلكها المنهج العلمي الفريد الذي اعتمده الفقهاء الأوائل رحمهم الله، وإن خفي ظاهره، وذلك بتسلسل الأفكار، وحسن الترتيب، وذكاء التقسيم، وانتظام الفروع تحت قواعد معينة لا يخرج المذهب عنها ولا يناقضها.

ولإيجاد الدافع نحو استيعاب الكتاب والإقبال عليه بهمة وحماس، يجدر بنا أن نجيب أولاً:

لماذا ندرس هذا الكتاب، وقد كتب بلُغة غامضة العبارة غريبة التراكيب، ومرَّ على تأليفه قرون طوال؟! أفلا يجدر بنا الرجوع لكتاب معاصر سهل، أو إملاء المادة العلمية بلغة مبسطة؟!

وللإجابة نقول:

– ندرس مثل هذه الكتاب، لتتكون لدينا مع الاستغراق في فروعه الملكة الفقهية، التي بها نفهم المصطلحات، ونستوعب التقاسيم، ونقرر القواعد، ونملك بذلك المهارات الفقهية التي تليق بي كطالبة علم، فأفهم بهذه المهارة كلام الفقهاء من أي مذهب وفي أي عصر.

وستلاحظين أنك في المستوى الثاني أسرع وأقرب فهماً للعبارات من المستوى الأول، وستكونين في الثالث بإذن الله أفضل، وفي الرابع أفضل وأفضل.

– ندرس مثل هذا الكتاب، لأن الفقه تراث جليل تركه لنا الفقهاء الأوائل، وقد كتب بلغتهم ودُوِّن بأسلوبهم، وإذا لم ترسخ لديَّ مثل هذه المهارة فسوف أنفصل علمياً وشعورياً عن مئات المراجع الفقهية العظيمة التي تضم اجتهادات الفقهاء وتفريعاتهم ومسائلهم.

– ندرس مثل هذا الكتاب، مع عنايتنا بتحقيق المسائل ومخالفة المذهب أحياناً إلى مذهب آخر يكون أقرب للدليل وقواعد الشرع، لأجل أن تتكون لدينا مهارات الخلاف الفقهي، بفهم الأقوال، واستيعاب مستندها فيما ذهبت إليه ووجه الدلالة منه، وقواعد مناقشة الأدلة ونقضها، وأسباب الترجيح، وعبر ذلك كله آداب الخلاف وحسن الاعتذار، وهل يرى طالب العلم أن سيكون لديه مثل ذلك إذا ما درس الفقه على قول راجح فقط؟! لا قطعاً!

بعد هذه المقدمة، والتي أرجو أن تكون مقنعة وحافزة للطالبات للإقبال على الكتاب، واعتبار فهمه تحدياً لذيذاً لطالب العلم 🙂 ، هنا أحاول أن أوضح كيف نقرأ المتن الفقهي ونعي ما فيه، عبر هذه الخطوات:

1) أبدأ بفصل معين، وأعرف هو ضمن أي باب، وضمن أي كتاب، لأربط الفروع بعناوين أصولها، فمثلاً: فصل، يعني في أحكام خطبة الجمعة، ضمن باب في صلاة الجمعة، وهذا يتبع كتاب الصلاة.

2) أقرأ صفحتين ولا أتجاوزهما، مرتين، أو ثلاث مرات، أو أربعاً.

3) أضع عند كل فرع عنواناً معيناً، وإذا انتهت أضع خطاً (/) حتى أعرف أني سأبدأ بفرع جديد، وبحسب هذا العنوان يكون تصنيفي لمكان المعلومة، كما يلي:

– قد يكون الفرع أقساماً، فأضع العنوان (أقسام كذا) وأرقم الأقسام ب (1، 2، 3، ..) حتى أنتهي منها، ثم أعود إليها من جديد لأستوعب الأقسام المذكورة.

– وكذلك لو كان أسباباً، أو شروطاً، أعنونها بعنوان عام، ثم أرقمها، ثم أعود لدراستها تفصيلاً.

– إذا كان تعريفاً، فأقسمه إلى لغة، واصطلاحاً، وفي الاصطلاح أتأمل كل كلمة على حدة، وأعرف محترزات التعريف – يعني ما خرج بقوله كذا – ، ليكون أدعى إلى فهم التعريف، ثم حفظه بيسر وسهولة.

[وقد حاولت – في أوراق العمل – في ورقة مسائل الباب، أن أذكر عناوينه قدر المستطاع، تسهيلاً وتقريباً].

4) وقد يذكر المؤلف تحت العنوان الأصلي عناوين فرعية فأنتبه لذلك، فمثلاً: عندي فرع عنوانه: شروط وجوب صلاة الجمعة: (ذكر، حر، مكلف مسلم، مستوطن)، اعرفي حصرها وأنها خمسة لئلا تنسي منها شيئاً، ثم تحت الاستيطان لدي أيضاً شروط كالعناوين الفرعية وهي: (ببناء معتاد ولو كان فراسخ، لا يرتحل عنه، اسمه واحد ولو تفرق) وهذه ثلاثة شروط فرعية لتحقق الاستيطان.

5) يفيد بشأن ترتيب هذه التقاسيم الرسم الشجري، في تصور الربط بين الفروع وأصولها، والأقسام وما تحتها، ويمكنك الاستفادة من الرسومات التي أضعها أحياناً، والأفضل أن تضعي لك رسومات إضافية على كل فصل تدرسينه.

[والآن من السهل رسم مثل هذه الرسومات بإجراء (سمارت آرت) في برنامج وورد، أو بتطبيق (مايند مابر) في الآب ستور].

6) إذا قال المؤلف: (ومن فعل كذا وهو كذا فكذا، ومن فعل وهو كذا فكذا)، فهذه عبارة شرط بشأن حالتين، فأضع عنواناً للمسألة، ثم أجعل منها (أ) وَ (ب)، وأعرف الفرق بين الحالتين، ولماذا تغير الحكم فيهما، وأركّز على السبب.

وهذا ما يسمى بـ (علم الفروق)، وهو من أدقّ وأعلى مراحل فهم النصوص الفقهية، وذلك أن يدرك القارئ الفرق بين فرعين، قد يبدو عليهما التطابق عند أول نظر، لكنهما مختلفان.

– أحياناً، بشأن الفقرة السابقة، يطيل المؤلف فلا يذكر جواب الشرط، فيقول مثلاً: (فإن كان عاصياً بسفره، أو كان سفره فوق فرسخ ودون المسافة، أو أقام ما يمنع القصر، أو لو ينو استيطاناً، لزمته بغيره)، وهذه الأمور المعطوفة أرقمها وأتابع القراءة فلا أقف حتى أصل لجواب الشرط، ثم أضع خطاً تحت الجواب – الذي هو الحكم لها جميعاً – لأعرف أن هذا الحكم ينطبق على هذه الحالات الأربع.

– تفسير الضمائر مهم جداً في معرفة مراد المؤلف، لأنه يتبع الأسلوب العربي البليغ الموجز الشائع في ذلك الزمن، والذي يقوم على الإضمار كثيراً ويدع معرفة إلامَ ترجع لذهن القارئ الفطن، وهنا ينبغي علي أن أصرح بمن ترجع إليه أثناء مذاكرتي، فمثلاً قوله (لزمته بغيره) في النص السابق تعني: (لزمته) أي المصلي المقيم، والفاعل: صلاة الجمعة، (بغيره): أي من المصلين المستوطنين، وهكذا.

5) أما بشأن الأدلة، ففيما يلي منهجها:

– من النافع الماتع للدارس أن يعرف قصة الدليل وتفاصيل واقعته، بعودته للكتب الموسعة التي ذكرته كالصحيحين – غير المختصرين – ونحوهما، فهي تجعله ذاكراً لحادثة النص فينزلها بعد ذلك على مثلها ربطاً بين الحادثتين، ومن الكتب التي اعتنت بذلك في أحكام الصلاة (صلاة المؤمن) للشيخ سعيد القحطاني.

– ضعي خطاً تحت الشاهد، ليكون تركيزك عليه في ربطه بالفرع الفقهي، واعرفي منه وجه الدلالة، وما تدل عليه الألفاظ: هل كان أمراً؟ أم نفياً للإثم وبالتالي الوجوب؟ أم نفياً للصحة؟ أم ترتباً للوعيد وبالتالي المنع؟ ونحو ذلك.

– إذا كان الحديث الذي استدل به صاحب الروض على الفرع ضعيفاً، والفرع الذي ذكره قوي راجح، فأرجع للحاشية وآخذ منها الدليل الصحيح أو التعليل المستقيم.

– من المهم الرجوع بعد كل باب لأوراق العمل، ورقة أحاديث الباب، لأربط بين كل دليل مذكور – وهو غالباً غير موجود في الحاشية – وما يدل عليه من الفروع الفقهية في ذلك الباب، وهي مجموعة لك في ورقة أو ورقتين لتركيز النظر فيها.

6) إذا حصل لدي غموض أو شك في فهمي لفرعٍ ما، فأكتب الفرعين معاً في ورقة، وأبدأ بتحليلهما:

كقوله في باب صلاة الجمعة: (ولا يشترط أيضاً حضور متولي الصلاة الخطبة)، مع الفرع السابق: (ويشترط حضور العدد المشترط لسماع القدر الواجب)، وهذا الإمام لم يحضر من الخطبة شيئاً، فكيف أجمع بينهما؟

أتأمل، ثم أفكر: كيف يمكن أن تصح الصلاة رغم أن شخصاً ترك حضور الخطبة؟ بالطبع إذا كان ليس من العدد المشترط كما هو مذكور في الفرع الثاني، فكأنه زائد على الأربعين – وفق المذهب – ، وبالتالي لا حرج في ذلك، وإذا صار إماماً فلا بأس.

ويمكن الاستعانة في ذلك بكتاب (تسهيل مسائل الروض المربع) للشيخ عبدالكريم النملة رحمه الله، فهو يربط الفروع بأصولها ليتبين وجه التعليل فيها للدارس بيسر.

7) من أجمل مهارات المذاكرة: التلخيص الذكي، وذلك بعد الانتهاء من كل فصل، في دفتر خارجي، أذكر بشكل سريع العناوين الرئيسة لهذا الفصل، وتحت كل عنوان كلمة أو كلمتين فقط تلخص لي محتواه دون تفريع، ويفيد في ذلك قراءة زاد المستقنع نهاية الفصل (الكلام الذي بين القوسين فقط) لترسيخ المعلومات المركزة المختصرة.

فمثلاً، ما جاء في ص 449، يمكن أن ألخصه في 5 كلمات: (وقت، إمام، جهر، نية، استيطان، موالاة)، وهكذا، مع أهمية ربط الأشياء المتعددة برقمها المحصور، فأقول مثلا: شروط خطبة الجمعة (((عشرة))) وهي: كذا..

8) وبعد تلخيص الفصل واستيعابه، ثبتي معلوماتك بقراءة شيء من الفتاوى المعاصرة للشيخ ابن باز أو ابن عثيمين وأمثالهما من العلماء الأجلاء، أو للجنة الدائمة، وذلك في الفصل الذي درسته، ليكون ذلك بمثابة المراجعة السريعة لمسائل الباب.

وأنصح في أبواب العبادات بكتاب: فتاوى أركان الإسلام، للشيخ ابن عثيمين، ومثله للشيخ ابن باز، ولعلماء البلد الحرام، رحمهم الله تعالى.

9) من الجميل أن تحاولي ضرب الأمثلة لك لتصور الوقائع، خاصة إذا قال المؤلف: (ولو فعل كذا فكذا)، فأحاول تخيل مثال مناسب لها مستوف للشروط المذكورة فيها، لينطبق عليه الحكم.

وهذا أيضاً من فوائد قراءة الفتاوى، فإنها غالباً تكون تطبيقاً على واقعة معينة تشبه المثال على الحكم.

*   *   *

وبعد،

فهذا ما استطعت تدوينه لكن – أخواتي الطالبات – بشأن طريقة القراءة للمتن الفقهي، وأجزم أن لديكن أيتها الفاضلات طرقاً أخرى أكثر إبداعاً وتنسيقاً، وأبقى أثراً، ولكل أناس مشربهم في طرائق الفهم والاستيعاب..

ولنعلم أن للفقه لذة للعقل وإعمالاً التفكير، وجودة للذهن لا ينالها إلا من تجشم الصعاب وصبر في القراءة والبحث والفهم، وكلما أمعن المرء في هذا الدرب تكشَّف له منها المزيد والمزيد، وليكن سراجه في ذلك الدرب الإخلاص، وزاده نية نفع نفسه أولاً، ونفع غيره من أمته.

وفقكن الله جميعاً ويسر أموركن، وبارك فيكن..

رأي واحد حول “كيف نذاكر (الروض المربع)؟

  1. شكرا أ.منال الدغيم ، كفيتِ ووفيتِ جزاك الله خيرا طالبات العلم الشرعي بيعانوا حقيقةً من مسألة كتاب الروض المربع وفق الله الجميع لما يحب ويرضى.

    إعجاب

أضف تعليق